Translate

May 15, 2012

تأملات في سورة العـــــصر

نبدأ بالتذكرة بحديث الرسول صلى الله عليه مسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وفقه اليوم هو فهم المعاني والمفاهيم التي تحتويها سورة العصر.
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم ـ في سورة العصر:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر ـ إن الإنسان لفي خسر ـ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر  ـ  صدق الله العظيم
سورة من قصار السور في القرآن الكريم ولكنها في غاية البلاغة والإبداع  ـ  أوجز الله فيها لنا أسس الفلاح والتوفيق ـ وصّفها لنا بدقة وتحديد فلم يترك مجالا للاحتمالات والظنون.
ولقد وعي صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لقدر هذه السورة وما تحمله من معان.  فلقد ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت بن عبيد الله أبن حصن قال: كان الرجلان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر ـ
وقال الشافعي رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
 تعالوا معا نتدبر أمر هذه السورة ونتأمل ما أتت به من معاني وأسس ـ ندعوا الله أن يكون في ذلك توفيقنا وصلاحنا ـ اللهم اجعلنا ممن يستمعن القول فيفقهونه ويتبعون أحسنه.
وقبل أن نبدأ أحب أن أذكركم وأذكر نفسي بأننا في هذا الأمر نتأمل كلمات الخالق عز وجل ـ وهي ليست بالكلمات المحدودة المعنى ولا تقف عند حدود استيعابنا البشري ـ بل كلمات شاملة لا يعلم قدرها ولا أبعاد حدودها إلا الله تبارك وتعالى.
ويقول علماء الإسلام في هذا الصدد أن من الإعجاز القرآني أنه يخاطب البشر علي مستوياتهم كل على قدره ـ وكل على قدر علمه واستيعابه.  ومن ثم فلا يفوتنا في هذا المجال أن نعترف بحدودنا وضآلة قدرنا وعلمنا ومن ثم نضع نصب أعيننا ونحن نتأمل كلمات الله سبحانه وتعالي أن أبعادها لأبعد وأشمل وأعمق من حدود فهمنا وأبعاد علمنا.
تبدأ السورة بقسم من الله تعالى بالعصر ـ أي بالزمن والدهر
أن الإنسان لفي خسر ـ أي في خسارة وهلاك
إلا ـ وهنا يستثني الله تبارك وتعالى طائفة أو صنفا من بني الإنسان
من هم؟ وما هي خصائصهم ومواصفاتهم؟  إنهم من وصفهم الله في كلماته بأنهم الذين:
§      آمنوا
     و
§      عملوا الصالحات
     و
§      تواصوا بالحق
     و
§      تواصوا بالصبر
ولا يفوتنا ملاحظة ال"واو" التي جمعت بين الأربع خصائص التي وردت في السورة... إنها "واو" عطف تؤكد حتمية الجمع بين كل هذه الخصائص مجتمعة دون تغيب أو نقصان... فإذا تغيب إحداها سقط الجمع ولم يكتمل الشرط...
أربعة خصائص مجتمعة هي شرط الفلاح والنجاة من الخسران:
الإيمان - والعمل الصالح - والتواصي بالحق - والتواصي بالصبر...
لم تقف الآية الكريمة عند الذين آمنوا فقط
لأن الإيمان بالقلب وحده لا يكفي لفلاح البشرية كما يدعي دعاة ما يسمى بالمسيحية بل كما يدعي بعض المسلمون ممن عجزوا عن استيعاب مفاهيم الدين الإسلامي الحنيف
وقد روي في الأثر ما يصور لنا حقيقة الإيمان: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل" (رواه ابن النجار والديلمي في "سند الفردوس" من حديث أنس ورمز له السيوطي في "الجامع" بعلامة الضعف).
الإيمان الحقيقي ليس بنظرية تدرس ولا بمبدأ أو فلسفة يقتنع الفرد بها فحسب بل هو تطبيق لمفهوم وتنفيذ عملي وترجمة إلى فعل.
ما فائدة النظريات والمبادئ والفلسفات التي ندرسها في الهندسة والعلوم والاقتصاد والطب والقانون وعلوم النفس والمجتمع إن كانت لا تمارس ولا تطبق ولا عائد لها على أفرادنا ومجتمعاتنا.
هكذا الإيمان ـ لم يطالبنا به الله كعقيدة نظرية أو لفائدة تعود عليه فهو غني عن ذلك ـ ولكن لفائدة تعود علينا ـ ولو تأملناها لوجدناها كل الفائدة وأشمل ما تكون.
نعم لو تأملنا فوائد الإيمان لوجدناها كل الفائدة وأشمل ما تكون. 
فالإيمان بالله ليس قيدا يحد من حرية المسلم بل هو تحرير للمسلم من قيود الشرك وذل الجاهلية.
ففي إيمان الفرد بالله الواحد الذي بيده كل شيء هو وحده الذي ينفع وهو وحده الذي يضر
هو وحده الذي يعطي وهو وحده الذي يمنع
هو وحده الذي يعز وهو وحده الذي يذل
إذا تأملنا هذه المعاني بدقة ووعي لأدركنا أبعاد الحرية والعزة التي يتمتع بها المسلم لا تستعبده مادة ولا سلطة
لا يرهبه نفوذ أو سلطان
ولا تخيفه أو تقلقه أمور هذه الدنيا ـ إلا ما كان له شأن بإيمانه وآخرته.
نعم لو أمعنا التفكير في الإيمان بالله وأبعاده لوجدنا فيه أكمل معاني الحرية والعزة والكرامة ولما قبلنا له بديلا
والقصد هنا هو الإيمان العملي الفعلي التطبيقي وليس النظرية أو المبدأ أو الفلسفة.
إن الإيمان الصادق ليس مجرد إدراك ذهني أو تصديق قلبي غير متبوع بأثر عملي في الحياة .. كلا، إنه اعتقاد وعمل وإخلاص.

ومهما اختلف علماء الكلام والجدل في العقائد حول مفهوم الإيمان وصلة العمل به: أهو جزء من مفهومه أو شرط له أم ثمرة من ثمراته، فإنهم متفقون على أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان الكامل.
 وقد ذكر القرآن الكريم الإيمان مقروناً بالعمل في أكثر من سبعين آية من آياته،
ولم يكتف بمجرد العمل ولكنه يطلب عمل "الصالحات" وهي كلمة جامعة من جوامع القرآن تشمل كل ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحية والمادية معاً.
وتأتي السورة تصديقا وتأكيدا في قوله تعالى وعملوا الصالحات
ونقف أمام هذا التوصيف وقفة تأمل
ربما كانت كلمة الصالحات من الكلمات التي جرت العادة على استخدامها لوصف أعمال اتفق غالبية البشر على أنها أعمال طيبة وخيرة ـ ومهما اتسعت دائرة الإتفاق فهناك دائما نفر من البشر الذين يرون جانبا آخر ولهم رأي مخالف
ومن ثم وجب علينا كمسلمين واعين ألا نقع في خطأ إفتراض وضوح معني الكلمات أو وحدة معانيها فقد يؤدي ذلك إلي سوء فهم وتحريف للمبادئ والقيم.  وفي هذا الصدد نذكر القارئ بأننا نتعامل هنا مع كلمات الله عز وجل وهو وحده هو القادر على الإلمام بمعاني الكلمات وتحديد أبعادها.  ومن ثم فعمل الصالحات هنا يقصد به الصالحات كما يعرفها ويوصفها لنا الله تعالى.
ومن ثم فمن عمل الصالحات عبادة الله كأننا نراه فأن لم نكن نراه فأنه يرانا.
ومن عمل الصالحات أداء الصلاة والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا
ومن عمل الصالحات البر بالوالدين وحسن تربية الأبناء
ومن عمل الصالحات التصدق على المحتاجين وحسن الجوار ـ هذا بعض مما يتفق عليه الكثير حين يستمعون إلى قول الله تعالى عن عمل الصالحات
ولكن هناك جانب آخر من عمل الصالحات لا يتطرق إلى الأذهان في الغالب ـ وعلى سبيل المثال وليس الحصر فإن من عمل الصالحات تطبيق الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية ومجابهة الجريمة بما شرَّع الله من قطع يد السارق ورجم الزاني والقصاص من القاتل
ومن عمل الصالحات صلاح القرار الإداري والسياسي
ومن عمل الصالحات الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال
وبتأمل هذه الأمثلة تتضح لنا خطورة إفتراض وضوح معني الكلمات أو وحدة معانيها ووجوب التأكد من إستخدام المفاهيم الصحيحة للألفاظ وأن نضع في الإعتبار القصور الناتج مماجرى عليه العرف أو إعتاد عليه الناس.
إذا فالمفهوم الصحيح لقوله وعملوا الصالحات هو الذين ترجموا إيمانهم بالله تعالى إلي فعل وعمل.
 ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى:
وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
وكلمة التواصي تحمل في طياتها "الجماعة"
ولا يكون التواصي بدون جماعة متآلفة .. يتقبل كل منهم ما يوصي به الآخر في حب وتقدير ..
مرجعيتهم في هذا التواصي هو الحق وليست الأهواء والنزعات
فالتواصي هو مشاركة مجموعة من الناس مشاركة إيجابية في التناصح والتذكرة.. كل يوصي الآخر ويذكره بأهمية أمر ما وضرورة الالتزام به...
وحتى يكون التواصي مقبولا ومجديا، هناك عدة شروط يجب توافرها:
أولا: أن يكون الأمر المُتَوَاصى عليه أمرا جليلا متفق عليه .. يؤمن به كل أفراد الجماعة بلا اختلاف.
ثانيا: أن يحاول كل فرد في الجماعة الالتزام بهذا الأمر بإخلاص وتفان .. وإلا فكيف للفرد أن ينصح الآخرين وينسى نفسه .. كيف له أن يذكر الآخرين وهو لاه وغير ملتزم.
ثالثا: أن تكون الجماعة متآخية متحابة .. متحدة في الهدف .. مجتمعة على ضرورة الالتزام بالأمر المتواصى عليه.
فالتواصي إذا يتطلب قيام مجتمع قوي متكاتف مبني على التآخي ووحدة الصف .. وهكذا يكون التواصي أحد شروط الفلاح .. وكيف يكون الفلاح في غياب المجتمع أو غياب هذه المقومات؟
وبماذا نتواصى؟  يخصص لنا الحق سبحانه وتعالى مجالين: الحق والصبر...
الحق هو الله .. هو شريعة الله .. هو السنن الكونية التي سنها الله .. هو كل شيئ صادق وحقيقي أقره الله .. هو البر والتقوى .. هو العدل .. هو العلم .. هو الفضيلة .. هو الاستقامة .. هو كل ما أرشد إليه الإسلام..
والتواصي بالحق هو التمسك بكل هذا وإتقانه على مستوى الفرد والتناصح والتذكرة بضرورة الالتزام به بين أفراد المجتمع .. إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. هو التمسك والتواصي بالفضيلة والامتناع والتناهي عن الرذيلة.
وكيف يكون فلاح الإنسان دون التواصي بالحق؟
وكيف يكون فلاح المجتمع أو فلاح الإنسانية دون التواصي بالحق؟
ولا يكون الالتزام أو التواصي بالالتزام بدون الصبر والتواصي بالصبر ..
فكيف يكون المجتمع بدون صبر؟  كيف يكون الصلاح والطاعة بدون صبر؟  كيف تكون العبادة والالتزام بالفضيلة بدون صبر؟
نصبر في طاعة الله .. ونصبر على قضاء الله .. ونصبر في سبيل الله.
فالصبر والمثابرة ضروريين للفرد في عبادته لربه، في عمله الصالح، في جده وكسبه، في تحصيل العلم، في المعاملات المجتمعية والأسرية، في التعامل مع الطبيعة من حولنا، في الحفاظ على البيئة .. وغير ذلك الكثير.
إن التواصي بالصبر هو بمثابة التكافل الاجتماعي .. يعين بعضنا البعض في حسن عبادة الله .. يعين بعضنا البعض على الجد والاجتهاد .. تحمل الصعاب وحل المشكلات .. وعبور الأزمات.
هكذا كانت شمولية سورة العصر .. وهكذا نرى بلاغتها وروعتها ..
 إن شروط النجاح الأربعة التي وردت في سورة العصر تنطبق كلية على كل أمور الدنيا والآخرة .. إن شروط الفلاح التي وصَّفها الله لنا حتى لا نضيع في خسر هي ذاتها شروط الفلاح في أي عمل دنيوي .. في الدراسة .. في التجارة .. في أي مشروع نقدم عليه..
فلا فلاح ولا نجاح إن لم:
نؤمن بهذا العمل وضرورته – ونترجم هذا الإيمان إلى فعل وعمل – ونكون الجماعة المتآلفة المتناصحة المتواصية بالأصول الحقة لهذا العمل – ويكون التواصي بالصبر والمثابرة جزئ لا يتجزأ من منهجنا في هذا العمل..
هكذا كانت شمولية سورة العصر .. وهكذا نرى بلاغتها وروعتها ..
ترسي لنا مبادئ هامة في شروط وأركان الفلاح في الدنيا والآخرة
هكذا يكون فقه الدين وفهم منهاج الحياة.